: تطبيق القاعدة القانونية
لا يمكن لأي قاعدة قانونية أن تجد مكاناً للتطبيق ما لم يكن لها نطاق تسري فيه …لذا يكون نطاق تطبيقها على النحو التالي :
أولاً :نطاق تطبيق قواعد القانون من حيث الأشخاص
بمجرد خروج القاعدة القانونية إلى حيز التنفيذ فأنها تصبح ملزم لجميع المخاطبين بمضمون أحكامها ..وعليه لا يمكن للمخاطب بها أن يستند إلى جهلة بالقاعدة القانونية حتى يتحلل من تطبيق أحكامها عليه. إلا انه في حالات معينه يمكن له أن يعتد بعدم العلم بالقاعدة القانونية .
وقد يسأل البعض كيف تقول لنا تارة لا يجوز له الاعتذار بجهل القانون وتارة يجوز له ؟ والإجابة على ذلك أن نطاق تطبيق القانون بالنسبة للأشخاص المخاطبين بحكمه يستند على مبدأ أساسي هو (عدم جواز الاعتذار بجهل القانون) وهذا المبدأ هو الأصل إلا أن هذا الأصل يرد عليه استثناء قد يقع وقد لا يقع…(يا لله مشينا نتعرف على المبدأ والاستثناء معاً) .
1- مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون:
يقصد به : لا يسمح لأي شخص مخاطب بحكم قاعدة قانونية أن يعتذر بجهله بها حتى يكون بمنأى عن تطبيق أحكامها في حقه ..وبعبارة أخرى وبمقتضى هذا المبدأ هو افتراض علم المكلفين بأحكام القانون حتى وإن لم يعلموا به فعلاً ..وعليه نضرب مثالاً (لو فرضنا صدر نظام ونشر في الجريدة الرسمية أم القرى يحظر صيد الضبان من الساعة 10 صباحاً حتى الساعة 2 ظهراً وتغريم من يصطادها في هذا الوقت عن كل ضب مائة ريال .. بحجة أن الضبان في هذا الوقت تمارس هواية الشخير المقفى بمعنى في قيلولتها ويحظر صيدها في هذا الوقت …وقام خالد بالذهاب إلى روضة خريم لممارس صيد الضبان وصادف صيده في وقت الحظر وقامت دورية من دوريات حماية الحياة الفطرية بضبطه متلبساً وفي يده خيشه مليئة بالضبان تتعدى 12 ضباً وبحسبة بسيطة وجد نفسه خالد مطالباً بـ1200 ريال ..هنا نقول وفقاً لهذا المبدأ لا يمكن لخالد الاعتذار بجهله لنظام حضر صيد الضبان حتى يتسنى له الهروب من الغرامة المقررة عليه).
والحكمة من وجود هذا المبدأ وهو افتراض علم المكلفين ب القانون وعدم جواز الاعتذار بجلهم به هو استقرار المعاملات وإلا كانت الثقة في المعاملات مزعزعه وبالتالي سيهدد سير العدالة وإدارتها وذلك عندما يثقل كاهل الجهات القضائية بحمل الدعاوي المؤسسة على الزعم بعدم العلم بحكم القانون.
بالإضافة إلى ذلك كله لو أمكن قبول الاعتذار بجهل القانون للتملص من أحكامه فسيصبح عنصر الإلزام الموجود في القاعدة القانونية غير موجود إلا عند ثبوت العلم بها وهذا الأمر لا ينسجم مع خصائص القاعدة القانونية التي يكون الإلزام بها أمرا منبثقاً منها بذاتها ..لا من عامل خارجي عنها متصل بالعلم بها واقعاً.
ملاحظه هامه : مبدأ افتراض العلم بالقاعدة القانونية يكون سارياً مهما كان مصدر القاعدة القانونية وأيا كان نوع القاعدة القانونية من حيث كونها آمره أو مفسره .
(خلصنا من المبدأ نجي على الاستثناء)
2- الاستثناء من مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون
كلنا نعلم أن النظام عندما يصدر ينشر في الجريدة الرسمية ( أم القرى في السعودية) ويفترض العلم به من تاريخ نشره ..فمتى ما نشر النظام في الجريدة الرسمية كنا أمام مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون على افتراض علم المكلفين به عن طريق نشره في الجريدة …لكن في حالة عدم وصول الجريدة الرسمية لبعض أقاليم الدولة بسبب قوه قاهره (زلازل –براكين –حروب لا سمح الله) نكون بصدد ماذا ؟ نكون بصدد جواز الاعتذار بجهل القانون وهذا هو الاستثناء .
إذاً وبحسبة رياضية بسيطة (قوة قاهرة =جواز الاعتذار بجهل القانون)..(لا توجد قوة قاهرة=يضل المبدأ على حاله وهو عدم جواز الاعتذار بجهل القانون) …وعليه قد يسأل شخص ويقول :هل المرض أو السفر يجيز لي الاعتذار بجهلي ب القانون؟ الإجابة على هذا السؤال لا مستحيل فالمشرع لا ينظر إلى الظروف الخاصة بل ينظر إلى الظروف العامة الاستثنائية التي لا يمكن دفعها وتكون مفاجأة مثل الزلازل والبراكين وتساقط الثلوج والحروب وغيرها.
ملاحظه هامه :
دائماً عند الحديث عن الجهل بأحكام القانون تثار مسألة الغلط في حكم القانون…أي توهم شخص ما في حكم معين من حيث وجوده أو عدم وجوده هل هو يشبه الجهل بأحكام القانون أو لا ؟
الإجابة على هذا السؤال بالنفيّ.. يختلف الجهل بأحكام القانون عن الغلط في حكم القانون المبنى على التوهم ومثاله (( لو فرفضنا أن خالد وأخته سويّر ! ورثا من أبيهما أموالاً طائلة ونصيب خالد كما هو معروف في قواعد الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين إلا أن سويّر قد قامت بالمخارجة وهو عقد معروف في الفقه الإسلامي يجيز بيع الوريث ما يملك لأحد الورثة وباعت لخالد حصتها وهي تظنها النص فإذا هي بأقل من ذلك (ثلث التركة) هنا نقول يحق لها إبطال عقد البيع ولا يجوز لخالد التمسك بعدم جوازها الاعتذار بجهل حكم من أحكام المواريث)….لذا نقول إن إعطاء المتعاقد الواقع في غلط في القانون حق إبطال العقد الذي أتمه وهو واقع تحت تأثير ذلك الغلط لا يعد استثناء أو خروجاً على مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل أحكام القانون..بل حكمه مستقل استقلال تام عن ذلك المبدأ.
ثانياً : النطاق المكاني لتطبيق القانون
لكي نفهم ما المقصود بالنطاق المكاني لتطبيق القانون ..لا بد لنا من سرد أسئلة قانونية لتقريب الفهم ..هل قوانين الدولة ينحصر تطبيقها على إقليمها السياسي ويشمل بذلك مواطنيها والأجانب المقيمين عليها ؟ أم أنها مقتصرة فقط على مواطنيّ الدولة دون الأجانب فيها والذين يظلون خاضعين لقوانين دولهم ؟وهل يلحق قانون الدولة أحدى رعاياها في المقيم في دولة أخرى ؟ ومثال ذلك (هل قوانين السعودية تنطبق على السعوديين والأجانب على إقليم السعودية السياسي ؟ أم أنها تخص السعوديين دون غيرهم ؟ وهل تلحق قوانين السعودية احد رعاياها المقيم في دولة الباكستان مثلاً) ؟؟
للإجابة على هذه الأسئلة والتي من شأنها تحديد النطاق او الحيز المكاني لتطبيق القانون سنجد أنفسنا أمام مبدأين هما :مبدأ إقليمية القوانين ومبدأ شخصية القوانين.
1- مبدأ إقليمية القوانين :
ويقصد به وجهان ، الأول : قوانين الدولة التي تصدرها تطبق في حدود إقليمها وعلى جميع الأشخاص سواء كانوا مواطنين أم أجانب مقيمين إقامة دائمة أو مؤقتة وتسري أيضا على كل ما يقع على إقليم الدولة من أشياء وأموال.
والوجه الأخر:لا يتعدى قانون تلك الدولة إلى إقليم دولة أخرى (كحال مثالنا السابق لا يمكن للقانون السعودي أن يلحق بسعودي مقيم في باكستان ولا على أمواله خارج السعودية والموجودة على إقليم باكستان وفقاً لهذا المبدأ).
وهذا المبدأ يعتمد على أساس استقلال كل دولة بإقليمها لتنظيم كل ما يقع داخله من علاقات قانونية أي أن السيادة هي التي تقرر سلطان الدولة المطلق على إقليمها .
وبناءاً على ما تقدم وفي ظل تطور المجتمعات الحديثة لاحت في الأفق إمكانية عدم جدوى تطبيق هذا المبدأ بحذافيره وخاصة بعد سهولة انتقال رعايا الدول فيما بينهما سواء كان الانتقال لأغراض العمل أو الدراسة أو السياحة..والحق أن هذا المبدأ لا يستقيم في بعض المسائل والتي يراعى فيها الجانب الإنساني والإعتقادي والاجتماعي الخاص بأولئك الأجانب المقيمين على إقليم دوله أخرى ..كحال (المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونسب وتركه ووصيه وخلافه)..لذا كان لابد من البحث عن وسيلة أخرى لتخفيف حدة مبدأ إقليمية القوانين تمكنّ من تطبيق قانون دولة ما خارج إقليمها ..وهذا أدى إلى ظهور مبدأ شخصية القوانين .
2- مبدأ شخصية القوانين:
يقصد به وجهان الأول : قوانين الدولة تسري على مواطنيها المقيمين على إقليميها والمقيمين خارج إقليميها (مثاله القانون السعودي ينطبق على المواطن السعودي فوق إقليم الدولة السعودية ويلحق به أينما وجود سواء في الباكستان أو في جزر الواق واق!!)…أما الوجه الآخر :لا يسري قانون الدولة على الأجانب المقيمين فوق أراضيها (مثال القانون السعودي لا يسري على الأمريكي والهندي والفلبيني والوقواقي نسبه إلى جزيرة الواق واق!!! ..المقيمون على أراضيها).
ويستند هذا المبدأ في وجوده إلى اعتبار أن القوانين تشكل في الأصل مجموع ما ارتضاه الأفراد لتنظيم شؤون حياتهم وبالتالي فأنها سنت لتطبق عليهم أينما وجدوا…والأخذ ببعض ما يستهدفه هذا المبدأ في العصر الحديث أصبح أساسه ما تقتضيه قواعد المجاملات الدولية والمعاملة بالمثل ثم تطور الأمر ليصبح الأخذ به خاضعاً لاعتبارات تتطلب العدالة واستقرار المعاملات.
ملاحظه هامه :
تذكرون مثالنا السابق عن جورج الأمريكي الذي قدم للسعودية لدراسة توالد الزواحف لدينا ؟!! دعونا نفترض أن جورج قراء مبدأ شخصية القوانين وفهم انه وفقاً لهذا المبدأ لا يمكن سريان القانون السعودي على المقيمين على أراضيها ..وزيّن له الشيطان سوء عمله وعزم على قتل مرافقه السعودي ..على الظنّ بأن القانون الأمريكي يجرم الإعدام بينما القانون السعودي يتخذ من الشريعة السمحاء دعائمه ويأمر بالقصاص في القتل ..فقتله حفيد (العلوج) ! استناداً لهذا المبدأ ..نقول له بالعامية لدينا : لا ..لا يا لحبيب أنت فاهم مبدأ شخصية القوانين غلط …مبدأ شخصية القوانين متعلق في بعض المسائل المتعلقة بما يعرف في القانون الدولي الخاص (بضوابط الإسناد) كمسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وخلافه ..أما عدا ذلك من عقود مدنيه أو تجارية أو جرائم أو جنح ومخالفات يجرمها القانون السعودي تسري عليك وعلى غيرك . بس انتهى.
مثال أخرى لتوضيح مبدأ شخصية القوانين :
تنص بعض التشريعات على مبدأ شخصية القوانين ومنها القانون اللبناني والذي يشير إلى أن القانون الواجب التطبيق بشأن الميراث هو قانون المورث ..وعليه (لو توفي سعودي مقيم على ارض لبنان فأن القانون الواجب التطبيق على تركته الموجودة على الإقليم اللبناني هو القانون السعودي) وهذا استثناءاً من مبدأ إقليمية القوانين.
لدينا تساؤل هنا …هل امتداد تطبيق قانون الدولة ليشمل جميع القاطنين على أرضها يرد عليه استثناءات ؟ الإجابة نعم وهذه الاستثناءات على النحو التالي:
1- تعتبر السفارات والمثليات الأجنبية المعترف بها أجزاء من أقاليم الدولة التي تمثلها وبالتالي فإن قانون الدولة التي توجد بها لا يسري عليها (مثاله السفارة الايطالية في حي السفارات في الرياض لا يمكن للقانون السعودي في أي حال من الأحوال أن ينفذ بداخلها ويطبق بل يطبق على كل ما يجري بداخلها القانون الايطالي وإنما قد تتدخل السلطات السعودية لتقديم المساعدة فقط)…وكذلك الحال بالنسبة للموظفين الدبلوماسيين ورؤساء الدول حيث يتمتع هؤلاء بحصانات قضائية وإعفاءات قانونية تحول دون تطبيق قوانين الدولة المقيمين على أراضيها عليهم.
2- بعض قواعد القانون العام تخاطب المواطنين فقط دون غيرهم من الأجانب المقيمين عليها كحال الواجبات العامة التي لا يكلف بها الأجانب مثل تولي الوظائف العامة وقصرها على المواطنين إلا انه قد تستعين الدولة بموظفين أجانب لتولي تلك الوظيفة وبهذا خروج على مبدأ التطبيق الإقليمي لتلك القواعد.
3- هناك بعض الامتيازات تقدم لبعض الأجانب على اعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة أو قواعد المجاملات الدولية كحال القوانين المالية المتعلقة بالضرائب والتي بالأصل تطبق تطبيقاً إقليمياً ما لم يكن هناك إعفاءات للأجنبي .
ملاحظه هامه :
لولا وجود مبدأ إقليمية القوانين ومبدأ شخصية القوانين لما وجد ما يعرف ب القانون الدولي الخاص وكان القانون المتعيّن تطبيقه في جميع الأحوال واحد.
ثالثاً: النطاق الزماني لتطبيق القانون
كلنا نعرف أن قواعد القانون ما وجدت إلا لحاجات المجتمع والتي بطبعها تتغير وتتبدل بحسب الزمان والمكان ..وهذا يعني أن سريان القاعدة القانونية قد لا تطول بمدتها وتأتي بعدها قواعد قانونية جديدة..وبالتالي يؤدي هذا التعاقب إلى حدوث تنازع بين القواعد القانونية المستبدلة والمستحدثة وبخاصة عندما تختلف أحكامها عن بعض..ويتعيّن حينئذ تحديد مدى سلطان تلك القواعد المتوالية والمتعاقبة على حكم ينظم واقعة كان موضوعها خاضع لحكم تنظيم معيّن زاحمه بعد ذلك قانون جديد يهدف إلى تنظيم حكم تلك الواقعة.
وعلى أساس هذا لابد لنا معرفة الكيفية التي يتم بها إلغاء القانون (مطلب أول) …ونبحث في مسألة تنازع القوانين (مطلب ثاني) ..فهذين المطلبين هما كل ما يتعلق بالنطاق ألزماني لتطبيق القانون.
المطلب الأول : إلغـــــــــــــــاء القـــــــــــــانون
قلنا فيما مضى أن حاجات المجتمع والعلاقات الاجتماعية فيه متغيّره لا تستقر على حال (الدوام لله)..وعليه فأن قواعد القانون ستكون عرضه للتغيّر..فهي أشبه ما تكون بالكائن الحيّ ..ولادة +عمر محدد يطول يقصر= وفاه …إلا أن وفاة القاعدة القانونية بأداة تسمى (الإلغاء) ..بينما الإنسان قد تكون وفاته بأدوات مختلفة (جلطه- سكته قلبيه-حادث سير-رقد ما قام لا سمح الله) ..إذا لا ينتهي القانون إلا بالإلغاء وهذه الأداة لا تكون إلا بيد سلطه واحده هي القادرة على القيام بذلك ..دعونا نتعرف على معنى الإلغاء والسلطة القادرة عليه.
يقصد بالإلغاء : هو إنهاء سريان القانون وإزالة سلطانه عن الأشخاص المخاطبين بأحكامه وذلك عن طريق تجريده من قوته الملزمة سواء ترتب على ذلك إحلال قواعد أخرى عوضاً عن ما تم نسخه أو بالاستغناء عنه بالكلية دون سن قواعد تحل محله.
وقد يقع الإلغاء على قاعدة واحدة من مجمل القانون كما قد يتعداها ليشمل القانون كله..غير أن عملية الإلغاء سواء وردت على قاعدة في القانون أو مجمله لا يمكن أن تتم إلا من نفس السلطة التي قامت بوضعه أو سلطة أعلى منها درجه وهذا يعني ضرورة مراعاة مبدأ (التدرج في القوه بالنسبة للقواعد القانونية).
ومثال ذلك ( لا يمكن لقاعدة من التشريع العادي نسخ قاعدة دستورية والسبب أن الدستور أعلى من التشريع العادي والسلطة واضعته أقوى وكذلك الحال لا يمكن لتشريع لائحي أن ينسخ قاعدة للتشريع العادي والدستوري لأنهما أقوى منها درجة في حين يمكن لتشريع لائحي إلغاء نص لائحي مساويّ لها في نفس الدرجة).
مثال آخر لتقريب الفهم :
اغلب الدول تضع التشريع في الدرجة العليا في قمة هرم مصادر القانون المختلفة فالتدرج في السلم بين المصادر يترب عليه عدم إمكانية قيام قاعدة في آخر سلم المصادر (من تشريع وعرف وفقه ) أن تلغي مصدر ارفع منها درجة ..فلا يتصور مثل قيام قاعدة عرفية بإلغاء نص تشريعي في حين أن النص التشريعي قادر على إلغائها بحكم انه ارفع منها درجه في سلم مصادر القاعدة القانونية.
واستناداّ لذلك فأن التشريع لا يلغيه إلا تشريع مثله في حين يمكن أن يلغي عرفاً عرف آخر.
ملاحظه هامه:
الإلغاء آثاره تمتد إلى المستقبل دون الماضي وهو بذلك على عكس البطلان …فالبطلان تكون أثاره على الماضي والمستقبل على السواء …وكذلك الإلغاء يختلف عن البطلان في كونه يرد على قاعدة قانونية صحيحة بينما البطلان يتقرر على عدم صحة وجود تلك القاعدة ابتداءً.
*طـــــــرق الإلغــــــــاء :
1- الإلغاء الصريح :
يكون عندما يفصح المشرع بنص قانوني صريح بأنها العمل بحكم القانون السابق سواء كان بشكل كلي او بإلغاء بعض القواعد في ذلك القانون القديم .
ومثاله (نص المادة 244 من نظام العمل والعمال السعودي يحل هذا النظام محل نظام العمل والعمال ، الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم (م/21) والتاريخ 6/9/1389هـ ، ويلغي كل ما يتعارض معه من أحكام).
ويعد هذا النوع من ابسط طرق الإلغاء وأبرزها وضوحاً وأكثرها شيوعاً …وقد يأتي الإلغاء الصريح عند حلول الأجل الذي ينتهي به سريان قانون مؤقت يصدر في أحوال وظروف خاصة …ومثاله (صدور قانون لمنحة مهلة للوفاء لبعض المدينين لمواجهة أزمة مالية تعصف باقتصاد البلد).
2-الإلغـــــــــاء الضمـــنيّ :
على عكس الإلغاء الصريح لا يكون بنص صريح وإنما يستنج من استحالة الجمع بين قواعده القانونيين لتعارضهما أو عندما عند ما يصدر قانون جديد متكامل يشمل نفس الموضوع الذي حكمه وعالجه قانون سابق.
وله صورتين هما :
أ- الإلغاء عن طريق التعارض بين النصوص : وفيه لا يتحقق إلغاء التشريع اللاحق للتشريع السابق إلا عندما نكون أمام قواعد قانونية تقرر إحكاما متناقضة مع سابقها…ويستند على (احترام رغبة المشرع الأخيرة التي يتعين معها الأخذ بما ارتضاه من تنظيم لحكم مسألة ما).
ملاحظه هامه :
الإلغاء للقانون القديم لا يكون إلا في حالة حدود التعارض مع القانون الجديد…وعليه أذا كنا أمام استحالة الجمع بين أحكام تشريعين فأن الإلغاء يكون إلغاءً كلياً…وعلى العكس إذا اقتصر التعارض مع بعض أحكام التشريع القديم أي على جزء منها فقط فيكون الإلغاء في هذه الحالة جزئياً.
ملاحظه أخرى مهمة :
قد يصدر تشريعين يحكمان مسألة واحده ومع ذلك يظل كلاً من هذين التشريعين سارياً ..فهل نحن بصدد إلغاء أي بمعنى هل نطبق الحكم الذي جاء به القانون الجديد ونترك ما جاء به القانون القديم مع أن كلاهما سارياً وموضوع ألواقعه وحده ؟؟ نقول جواباً على هذا لا …لسناً بحالة إلغاء ولا يمكن القول بذلك والسبب أن القانون الجديد بمثابة (الخاص) و القانون القديم بمثابة (العام) وهناك قاعدة قانونية يعرفها القانونين تسمى (الخاص يقيّد العام في حكمه) ..ومثاله : القانون المدني ينظم عقد العمل …وفي ذات الوقت قانون العمل ينظم عقد العمل أيضا ..ولو عرضنا واقعة (استحقاق العامل للأجرة) فأي القانونين نقدم في التطبيق ؟ الإجابة يقدم (قانون العمل) على ( القانون المدني) …باعتباره قانون خاص ..استناداً لقاعدة (الخاص يقيّد العام) ..وعلى العكس إذا لم نجد في قانون العمل ما يحكم واقعه قد نظمها القانون المدني …فأننا في هذا الحال نقدم القانون المدني للتطبيق على الواقعة على اعتباره (القواعد العامة واجبة التطبيق).
ب-الإلغاء عن طريق إعادة التنظيم:
يقصد بإعادة التنظيم أن المشرع عندما يصدر تشريع لاحق على تشريع سابق يتناول فيه جميع ما تم تنظيمه في السابق بصوره متكاملة وعلى ذلك يعد التشريع القديم منسوخاً ضمناً بقواعد التشريع الجديد حتى المسائل التي لم يتناولها التشريع الجديد وهي موجودة في التشريع القديم تلغى منه.. دونما الإشارة إلى ذلك في ديباجة التشريع الجديد ولا حتى خاتمته .
المطلب الثاني :تنازع القانون من حيث الزمان
(هذا الموضوع يحتاج فقط إلى التركيز والفهم).
قلنا في السابق أن القاعدة القانونية تصبح في حيّز النفاذ عند نشرها في الجريدة الرسمية أو عندما يحدد المشرع نفاذها بعد تاريخ معيّن وفي تلك الحالتين يعتبر القاعدة القانونية سارية كما انه كما اشرنا سابقاً ينتهي العمل بها عند إلغاء حكمها والذي يكون عادة بإصدار قاعدة قانونية تحل محلها…غير أن تطبيق القانون في حيز الزمان على أساس تحديد بدايته وانتهائه قد لا تنتقضي فيه وقائع قانونية ممكن أن تستمر آثارها إلى ما بعد انتهائه وحلول قانون آخر محله تختلف فيه النتائج المترتبة عند إعمال حكمه عن سابقه…فما هي المبادئ التي تحكم هذا التنازع الزماني ؟؟ (للإجابة على هذا السؤال ولحلول هذه الإشكالية دعونا نتعرف جميعاً على تلك المبادئ) .
أولا : مبدأ عدم رجعية القوانين :
يقصد به : انعدام سريان أحكام قواعد القانون الجديد على الماضي..بحيث لا يكون هناك أثر رجعي للقانون على وقائع ومراكز قانونية ترتبت في شتى مراحلها في ظل قانون قديم…بمعنى آخر قواعد القانون السابق ستكون هي الحاكمة لكل ما تم من أفعال وتصرفات قبل نفاذ القانون الجديد.
مثال: لو صدر قانون بتاريخ 6/2/2006 ينظم عقود بيع المركبات الأجنبية في السعودية مثلاً بحيث لا يعتبر عقد البيع صحيح ومنتج لأثاره ما لم يتم تسجيله لدى قسم التسجيل في إدارة المرور …(أي أن التسجيل شرط انعقاد وإلا اعتبر عقد البيع باطل في هذه الحالة) …فأن هذا القانون الجديد لا يسري على تصرفات قد تمت في الماضي (بمعنى بيوع المركبات الأجنبية في الماضي جميعها صحيحة حتى ولو لم يتم تسجيلها في إدارة المرور) .
مثال آخر :لو فرضنا انه في عام 2005 ( لا يعد استخدام الجوال إثناء قيادة السائق لمركبته مخالفه يعاقب عليها في السعودية)..وكان صاحبنا خالد (لا يهدأ جرس جواله من الرنين في ال24 ساعة ،،ساعةً واحده ) وكثيراً ما يتسبب في حوادث ومع هذا لا يتعظ إلا انه في 1/1/2006 ..صدر قانون يجرم استخدام الجوال أثناء القيادة …فهل يمكن لنا معاقبة خالد على استخدامه للجوال في العام الماضي ؟؟ الإجابة (لا) ..لا يعتبر خالد مرتكباً لفعل مجرم لأن في هذا تطبيقاً للقانون على الماضي وإعمالاً لأثره على حوادث تمت قبل سريانه وهذا يتنافي مع مبدأ عدم رجعية القوانين.
ومما لاشك فيه أن عدم انسحاب أثار القانون على ما قد تم في الماضي أمر تحتمه اعتبارات متعددة تتوافق مع المنطق القانوني في العلاقات التي تتم بين أفراد المجتمع ومن هذا الاعتبارات ما يلي :-
1-المنطق القانوني الذي فيه ينظر إلى القاعدة القانونية على اعتبارها خطاباً تكليفي لأفراد المجتمع يتضمن أمراً بأتباع عمل محدد أو النهي عنه لا يمكن تصوره إلا في أمور مستقبلية والقول بغير ذلك يعني أن القانون سيأمر شخصاً للقيام بعمل في زمن ماضي وهو ما يستحيله الواقع.
2-العدالة واعتباراتها وبالخصوص منها ما يتعلق بتجريم أفعال …فمن المعلوم أن الأصل في الإنسان براءة ذمته كما أن الأصل في الأشياء الإباحة فلا يتصور ولا يستسيغ مفهوم العدالة أن يطالب الشخص بالخضوع لقانون يعاقبه على فعلا مباحاً في الماضي وجرّم في الحاضر بقانون لاحق.
3-يعد مبدأ عدم رجعية القوانين ضماناً أساسيا لحقوق الأفراد وأداة رئيسية لدعم الاستقرار الاجتماعي والثقة في المعاملات بين أفراد المجتمع …والسبب أن انسحاب القانون بحكمه على الماضي سيقود إلى الإخلال والاضطراب قد يهدم فيه ثقة أفراد المجتمع ب القانون .
(هذا ما يتعلق بمبدأ عدم رجعية القوانين انتهينا منه ؟؟ لكن هل انتهينا حقاً ؟؟ طبعا لا! لدينا استثناءين مهمين على مبدأ عدم رجعية القوانين يسابقنا الوقت شوقاً للتعرف عليهما) !!!
الإستثناء الأول : هو ذلك الاستثناء الوارد بنص صريح على رجعية القوانين:
قلنا فيما مضى أن مبدأ عدم رجعية القوانين هو الأصل الذي يلتزم به القاضي وواضع القانون ….إلا انه في حق القاضي يكون بشكل مطلق (أي أن القاضي ملزم بتطبيق ذلك المبدأ) ..على عكس واضع القانون (أي المشرع) فأن لا يتقيّد به إلا في حالة النصوص الجنائية ومثالها (ما نصت عليه المادة 38 من النظام الأساسي للحكم بقولها : العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نظامي ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي) …هنا المشرع قد نص بشكل صريح على شمول الأحكام الجديدة وإعمالها في وقائع ومراكز قانونيه سابقة وان كانت داخله في نطاق سريان قانون قديم.
والعلة في ذلك هو اختلاف وظيفة كل من القاضي والمشرع …فالقاضي مكلف بتنفيذ وتطبيق القانون فتنحصر مهمته بشكل أساسي في الاعتراف بحالة قانونية سابقه والبحث في آثارها وهو أمر لا يمكن تحققه إلا بناء على القانون الجديد حينما يرتب تلك الآثار القانونية.
بينما يكون للمشرع على سبيل الاستثناء الخروج على هذا المبدأ عندما تحتم عليه المصلحة العامة للمجتمع وبناء على ذلك فإن اللجوء إلى الاستثناء ينحصر في الحالات التي تصبح معها إعمال الأثر الرجعي للقانون مغلبه على المصلحة المترتبة من ضرورة استقرار المعاملات.
الإستثناء الثاني : استثناء القوانين الجنائية الأصلح للمتهم من مبدأ عدم رجعية القوانين:
يقصد ب القانون الأصلح للمتهم هو ذلك القانون الجديد الذي يصدر بعد ارتكاب الفعل الجرمي (والذي عادة ما تكون العقوبة فيه مشدده في ظل قانون قديم) …فهنا ولاعتبارات إنسانية بحته لا يعد انسحاب القوانين الجنائية الأصلح للمتهم على ما مضى من أفعال وحوادث انتهاكاً لحريات الأفراد …بل انه يستفيد المتهم بتخفيف العقوبة عنه في القانون الجديد إلى حد اقل مما كان عليه في القانون القديم ..كما ان هذا الاستثناء يراعي فيه اعتبارات العدالة فمن غير العدل الإصرار على تلك العقوبة بعد صدور قانون يرى إباحتها أو يخفف من شدة العقوبة فيها.
مثاله : لو فرضنا مثلاً … في تاريخ 1/ 1 / 2005 أودع صاحبنا (مطلق) سجن الحائر وحكم عليه بالسجن لمدة 6 شهور مع الجلد وذلك بتهمة احتسائه النبيذ المحرم شرعاً وكانت هذه هي المرة الأولى التي أقدم بها مطلق على أم الكبائر !!! إلا انه بعد مكوثه قرابة الشهرين من مدة الحكم …آتت البشائر تزفها الأقدار وصدر قانون بتاريخ 1/ 3/ 2005 ينص على أن عقوبة احتساء النبيذ بكافة أنواعه لأول مره يعاقب مرتكبها …فقط بكتابة تعهد وتوبة إلى الله على أن لا يعود إليها …هنا كما تلاحظون في مثالنا صدر قانون أصلح للمتهم (مطلق) فعليه لا نركن إلى مبدأ عدم رجعية القوانين…. ونقول لا بل القانون الجديد طالما انه فيه صلاح للمتهم فأنه يعود عليه بأثر رجعي .
ملاحظه هامه:
بعض الفقهاء القانونيين يميلون في أرائهم إلى القول بوجود استثناء ثالث على مبدأ عدم رجعية القوانين وذلك في حالة إثبات رجعية القوانين التفسيرية وذلك عندما يصدر قانون جديد يفسر فيه غموض قاعدة قانونيه في قانون قديم ويكون بشرحه لتلك الأحكام قد أظهرت المقصود منه والتي قد يفهم منها إمكانية انسحاب القانون الجديد بتفسيراته للقانون القديم على آثاره السابقة …..إلا أن هذا الرأي يخالفه الواقع والسبب أن القانون المفسر لا يحتوي على أحكام جديدة وإنما يقتصر فقط على الإفصاح عن المعنى المراد من التشريع الأصلي.
* الرأي القانوني الراجح (لا يعتبر القانون المفسر لغموض في تشريع أصلي سابق استثناء على مبدأ عدم رجعية القوانين وعليه نقول لا يوجد استثناءً ثالث) .
ثانياً :مبدأ الأثر المباشر أو الفوري للقانون:
هذا المبدأ لا يحتاج إلى عقلية نيوتن ولا لإقدام عنترة وشجاعته ولا حتى لفصاحة سيبويه لفهمه !!! …فهو بكل بساطه ذلك المبدأ الذي يمكن للقانون الجديد سلطان مباشر على الأحكام والمراكز القانونية التي تقع منذٌ نفاذه ..وعليه تكون كل واقعة أو حالة بعد سريانه محكومة بما تقرره قواعده حتى ولو كانت بعض الوقائع فيه متولدة في كنف قانون قديم وذلك لأن سريانه لا يكون تطبيقاً رجعياً لأحكامه بل ينظر إليه على اعتباره تطبيق فوري له.
ويستند هذا المبدأ على اعتبارات عده منها ما يلي :-
1-يمنع الازدواجية التي سوف تحكم المراكز والأوضاع القانونية المتماثلة حينا نكون بصدد تطبيق للقانون الجديد وذلك لأن القانون الجديد ستنبسط ولايته على كافة المراكز القانونية والوقائع القانونية المتشابهة .
2-هناك حكمة من إقرار مبدأ الأثر الفوري للقانون تكون واضحة في المصلحة التي تقتضي نبذ اثر القانون القديم لقصوره وعدم صلاحيته لمعالجة مسألة من المسائل.
ملاحظه مهمة :
تطبيق مبدأ الأثر الفوري للقانون بصورة مطلقة قد تنتج عنه مساوئ وخاصة في بعض الأحيان التي ينعدم فيها تحقيق مصلحة اجتماعية عند تطبيق ذلك المبدأ وعندما ينجم عنه في ذات الوقت الإضرار بمصالح الافراد ويكون ذلك في الروابط القانونية التي أجريت بين الأفراد قبل إصدار القانون الجديد وكانت أثارها مستقبلية متحققة كلها أو بعضها بعد سريان القانون الجديد .
مثاله لتقريب الفهم :
لو افترضنا تعاقد المطرب ذو الحنجرة الذهبية مناحي ! مع شركة (يا ليل يا عين للإنتاج والتوزيع الفني) على أن تقوم بتوزيع أعمالة الغنائية إلى كافة مناطق المملكة دون الخليج والدول العربية (حفاظاً على سمعة الفن السعودي) !! …وكان العقد ينص على أن تقوم الشركة في كل شهر بتوزيع (200 شريط) على كل مدن المملكة الكبرى ومضت الشركة في تنفيذ التزامها ولم يتبقى إلا أربع مدن لم يصلها أشرطة الفنان مناحي …وفي أثناء ذلك صدر قانون يشترط أن يكون التوزيع بأذن مسبق من قبل وزارة الإعلام …هنا لا يمكن لنا الأخذ بمبدأ الأثر الفوري بل يحق لكلاً من مناحي والشركة الفنية المضي قدماً على ما تعاقد عليه …والعلة من تقرير الخروج على مبدأ الأثر الفوري للقانون هنا تكمن في احترام إرادة الأطراف المتعاقدة عندما أقدمت على إبرام تلك العقود على أساس اعتبارات وحسابات كانت في تقديرها لأحكام القانون الساري وقت التعاقد. ولو طبق مبدأ الأثر المباشر أو الفوري بحذافيره لكان أدى ذلك إلى اختلال التوازن العقدي بين الأطراف وهو ما قد يفضي إلى إجحاف بحقوق الأفراد.
ملاحظه أخرى على ما سبق :
قلنا إن هناك إمكانية للخروج على مبدأ الأثر المباشر أو الفوري ..وضربنا مثلاً لذلك العقد المبرم بين (المطرب مناحي وشركة يا ليل يا عين للإنتاج والتوزيع الفني) …وقلنا أيضا أن إمكانية الخروج على المبدأ تكمن في العلاقات التعاقدية إلا أن هذا الخروج يرد عليه شرط مهم …دونه لا يمكن لنا الخروج عن المبدأ وذلك الشرط هو ((إلا تكون قواعد القانون الجديد من القواعد الآمرة والمتعلقة بالنظام العام والآداب العامة)) ..حيث هنا يتعطل أثار القانون السابق ويعمل الأثر المباشر للقانون الجديد متى ما كانت نصوصه آمره متصلة بالنظام العام والآداب العامة.
جميعاً…فقط قراءة وبإمكانكم الإستعانة بذلك في كتب مبادئ القانون لا تحتاج إلى فهم ولا تشكل أهمية كبرى أصلاً لفهم القانون من وجهة نظري !!